القليل ولكن بانتظام
لا زلت أذكر لاري نتر الصديق الذي واظب على زيارتي مرة في كل شهر في مقر عملي في مدينة مانيتو سبرينغز بولاية كولورادو الأمريكية. كان لاري يعمل في جهاز أمن سجن مدينة لايمن المتاخمة لحدود ولاية كانساس وهي مدينة صغيرة يعتمد اقتصادها برمته على إيرادات السجن المُخصصة له من حكومة الولاية. كان لاري يعود لمدينة مانيتو في كل شهر مرة ليقضي إجازته حيث تقيم زوجته. تعرفت عليه ذات مرة عندما كان يبحث عن جهاز كمبيوتر أراد أن يبتاعه، فقاده بحثه إلى عتبة ألتورا الشركة التي كنت أُديرها.
لا بد أن زيارتي كانت تروق للاري وكأنه وجد فيها ما جعله يحرص على المواظبة عليها. كان يقصد المجيء قُبيل انتهاء الدوام الرسمي لقضاء أوقاتا ممتعة نتجاذب فيها أطراف الحديث دون الرد على تلك المكالمة أو الحضور لذلك الزائر. ووجدت متعة في الحديث معه أيضا وكيف لا وهو السجان الذي يعيش حياة طالما حاكتها أفلام هوليود والتي كنت أشاهد العديد منها في صباي. ملامح لاري تشبه ملامح الشُرطي التقليدية كما صورتها المسلسلات البوليسية. طويل القامة وعريض المنكبين وأشقر الشعر ذو لياقة بدنية ظاهرة شأنه شأن رجال الأمن. كان لاري يُحدثني عن ظروف السجن والتعامل مع السجناء. دُهشت ذات مرة عندما أخبرني أن متوسط السجين الواحد يكلف الولاية ما يفوق الأربعين ألف دولار في السنة . أيُعقل ذلك؟ سألته وعلامات الدهشة تجتاح وجهي. قال لي، نعم وهذا سبب حرصهم على البقاء في السجون. قالها وعلامات التهكم تمتلكه. ويضيف لاري أن السجين يتمتع بمزايا لا يحلم بها كثير من الأحرار مثل الوجبات الشهية والعناية الصحية والألعاب الرياضية وخدمات الإنترنت والفترات الترفيهية بألوانها المختلفة مثل مشاهدة التلفاز وألعاب الورق والشطرنج وطاولة الزهر وغيرها من التسالي. وأضاف أن السجناء يستطيعون إكمال دراستهم لو رغبوا في ذلك. كل ذلك على نفقتك ونفقتي نحن المواطنون لأنها تُقتصُ من أموال الضرائب التي ندفعها في كل سنة. وبتلك الملاحظة انقلبت ملامح التهكم إلى غضب عارم.
تعلمت من لاري الكثير من الشئون. فما زال يحثني على اصطحابه في جولة صيد لطيور السَّمان حتى أقنعني بالذهاب معه. ولكن عندما أصر على تسجيلي في دورة لتلقي تعليمات الصيد الآمن والتي تستغرق ثلاثة أيام حاججته بضيق الوقت فتركني لرغبتي متفهما ذلك.
فوجئت في أحد زياراته بإحضاره لطائرين صادهما. كانا نظيفين وموضوعين في كيس بلاستيكي بعد أ ن لفهما بلفيف حافظ. حذرني من قضم الرصاصات الصغيرة التي أصابتهما لأنهما قد يسببان عسرا في الهضم. قبلت الهدية سائلا إياه عن طريقة تحضيرهما، فأجابني لذلك.
أهم ما علمني إياه لاري كان درسا ثريا في الاستثمار . قال لي أنه لا يؤمن بالاستثمار في سوق الأسهم حيث أنه خسر مبالغ طائلة فيه. أفادني بأن أفضل أنواع الاستثمار هو ما قَلِّ وانتظم. لم يقنعني بذلك لاري آنذاك ولكني اقتنعت به بعد فترة ليس بالقصيرة ويا ليتني بدأت حين نصحني. كان لاري يستثمر نقوده فيما يٌعرف بشركات الاستثمار المتبادل أو المشترك وهي شركات تجمع من المشترك مبلغا من المال قد يقِّل أو يكثُر كل حسب سعته وتستثمر الشركة تلك المبالغ في قطاع يختاره المستثمر مثل قطاع الاتصالات أو قطاع التقنيات أو قطاع الأدوية. وتبتاع الشركة أسهما بالمبلغ الإجمالي من أسهم عدد ليس بالقليل من شركات ذلك القطاع مما يعمل على تقليل عامل الخسارة إذا كان لا بُد منها.
اقتنعت أخيرا بنصيحة لاري ويا لها من نصيحة. أيقنت بحكمة ذلك الرجل بعد فوات الأوان.
بدأت أفكر كيف من الممكن تطبيق تلك النصيحة على شئون أخرى ليس بالضرورة مادية. الذي تعلمته من لاري هو قيمة النقود مع الزمن. إذا للأشياء قيمة مع الزمن. هذه القيمة قد تنقص أو تربو.
ماذا لو قرأت في كل يوم صفحة واحدة من مجال يهمني؟ يا تُرى ما مدى تراكم المعلومات لدي بعد شهر أو بعد سنة ؟ ماذا لو كتبت جملة واحدة في اليوم وأتقنت قواعدها؟ ماذا لو ريضت جسدي في اليوم نصف ساعة؟ ماذا لو تعلمت كلمة واحدة في كل يوم من لغة جديدة؟ ماذا لو ... ؟ وماذا لو ....؟ أترون ما نحن عنه منشغلون؟
نضيع أوقاتاً ثمينة هباء في شئون هامشية لا تُسمن لا تُغني من جوع.
لو كتبت مقالا بالعربية قبل خمسة سنوات لوجد فيه القارئ ما يجعله يُعرض عنه من أخطاء وسوء صياغة وفقر في التعبير. لا أُنكر فضل من أعانني على التقدم في ذلك المضمار.
وفي النهاية ما هي فائدة العلم الذي تعلمته والتجارب التي خضتها إذا لم أنفع بها من حولي من الناس؟ فلهذا أخاطبكم.
عمت مساء صديقي لاري حيثما كنت.
عودة هزيم.